فصل: فَصْلٌ في معنى قوله: {فما فوقها}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَصْلٌ في معنى قوله: {فما فوقها}:

قال الكِسَائيّ وأبو عُبَيْدَةَ، وغيرهما: معنى {فما فوقها} والله اعلمُ: ما دونها في الصِّغَرِ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول؛ لأنَّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكُلَّمَا كان المشبَّهُ به أشدَّ حقارةً كان المقصود أكمل حصولًا في هذا الباب.
وقال قتادة، وابن جريج: المعنى في الكبر كالذُّباب، والعنكبوت، والكلبِ، والحمار؛ لأنَّ القوم أنكروا تمثيل اللهِ بتلك الأشياء.
قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ}.
أما حرفٌ ضُمِّنَ معنى اسم شرط وفعله، كذا قَدَّرَه سيبويه قال: أما بمنزلةِ مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ.
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: وفائدته في الكلام أن يعطيه فَضْلَ توكيد، تقولُ: زيدٌ ذاهبُ، فّا قصدت توكيد ذلك، وأنَّهُ لا محالة ذاهبٌ، قلت: أمَّا زيدٌ فذاهبُ.
وقال بعضهم: أما حرف تفصيل لما أجمله المتكلم، أو ادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلاَّ المبتدأ، وتلزم الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ ومقدَّرٍ كقوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم: أكَفَرْتُمْ، وقد تحذفُ حيث لا قَوْلَ؛ كقوله: الطويل:
فأَمَّا القِتَالُ لا قِتَالَ لَدِيْكُمُ ** وَلَكِنَّ سَيْرًا في عِرَاضِ المَوَاكِبِ

أي: فلا قتالَ.
ولا يجوز أن تليها الفاء مباشرة، ولا أن تتأخّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ، لو قلت: أَمَّا زَيدٌ منطلقٌ ففي الدَّار لم يجز، ويجوز أنْ يَتَقَدَّمَ معمولُ ما بعد الفاء عليها ممتليٌّ أمَّا كقوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9].
ولا يجوز الفصلُ بَيْن أَمَّا والفاءِ بمعمول خبر إن خلافًا للمبرد، ولا بمعمول خبر ليت ولَعَلّ خلافًا للفرّاء، وإن وقع بعدها مصدرٌ نحو: أمَّا عِلْمًا فعالمٌ فإن كان نكرةً جاز نصبه عند التميميين فيه الرفع والنصب نحو: أَمَّا العِلْمُ فَعَالِمٌ، ونصب المنكِّر عند سيبويه على الحال، والمعرَّف مفعول له.
وأمَّا الأخفشُ فنصبهما عنده على المفعول المطلق، والنصب بفعلِ الشرط المقدَّر، أو بما بعد الفاء، ما لم يمنع مانعٌ، فيتَعَيَّن فِعلُ الشرط نحو: أمَّا عِلْمًا فلا عِلْمَ له أو: فإنَّ زيدًا عالمٌ؛ لأن لا وإنَّ لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما.
وأمَّا الرفعُ فالظاهِرُ أنه بفعل الشرط المقدَّرِ، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ، أو: العلم فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكون مبتدأ، وعالمٌ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ خبرةُ، والتقديرُ: أَمَّا علمٌ- أو العلمُ- فزيدٌ عالمٌ به، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنَّهُ موضعُ تفصيل، وفيها كلام طويل.
و{الَّذِينَ آمَنُوا} في مَحَلِّ رفع بالابتداء، و{فيعلمون} خبره.
قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}.
الفاءُ جواب أما لما كان تضمنته من معنى الشَّرط، و{أَنَّهُ الْحَقُّ} سَادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند الجمهور، وساد مسدّ المفعول الأوّل فقط، والثاني محذوف، عند الأخفش، أي: فيعلمون حَقِيْقَتَهُ ثَابِتَةً.
وقال الجمهور: لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ وجود النسبة فيها بعد أن كافٍ في تَعَلُّقِ العلمِ، أو الظَّنِّ به، والضمير في {أَنَّهُ} عائدٌ على المَثَلِ.
وقيل: على ضرب المثل المفهوم من الفِعْلِ.
وقيل: على ترك الاستحياء.
و{الحقُّ} هو الثابت، ومنه حَقَّ الأمْرُ أي: ثبت، ويقابله الباطل.
و{الحق} واحدُ الحقوق، والحَقَّة بفتح الحاء أخص منه، يقال: هذه حَقَّتِي، ومن لابتداء الغاية المَجَازية.
قوله: {وأَمَّا الَّذِينَ كفروا} لغة بني تميم، وبني عامر في أما، أَيْمَا يبدلون من أحد الميمَْن ياءً؛ كراهيةٌ للتضعيف؛ وأنشد عمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ: الطويل:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ** فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ

قوله: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ}.
اعلم أَنَّ ما في كلام العرب ستى استعمالات:
أحها: أن تكون ما اسم استفهام في محل رفع بالابتداء، وذا اسمُ إشارةٍ خبرُهُ.
والثاني: أن تكون ما استفهاميةً وذا بمعنى الَّذِي، والجملةُ بعدها صلةٌ، وعائدها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يرفع ما أجيبَ به أو أُبْدِلَ منه؛ كقوله: الطويل:
لاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ

ف ذا هنا بمعنى الذي؛ لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ، وهو أَنْحبٌ، وكذا {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] في قراءة أبي عمرو.
والثالث: أن يُغَلَّبَ حكم ما على ذا فَيُتْرَكَا، ويصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكون في محلِّ نصبٍ بالفِعْلِ بَعْدَهُ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصبَ جوابُه والمبدلُ منه كقوله: {مَاذَا يُنْفِقُونَ قلِ الْعَفْوَ} في قراءة غير أبي عمرو، و{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30] عند الجميع.
ومنه قوله: البسيط:
يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ ** لاَ يَسْتَفِقْنَ إِلَى الدِّيِدَيْنِ تَحْنَانَا

فماذا مبتدأ، وبالُ نسوتكم خبرُه.
الرابع: أن يُجْعَلَ ماذا بمنزلةِ الموصول تغليبًا لذا على ما عكس الصورة التي قبله، وهو قليلٌ جدًا؛ ومنه قوله: الوافر:
دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ ** وَلَكِنْ بِالْمُغَيِّبِ حَدِّثِينِي

ف {ماذا} بمعنى الذي؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له به.
الخامس: زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ {ماذا} كله نكرة موصوفة، وأنشدَ: دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ أي: دَعِي شيئاَ معلومًا، وقد تقدَّم تأويله.
السَّادس: وهو أضعفها أَنْ تكون ما استفهامًا، وذا زائدة، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالًا له، ولكنَّ زيداة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِدًا.
إذا عُرِفَ ذلك فقوله: {مَاذَا أَرَادَ اللهُ} يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية:
أحدهما: أن تكون ما استفهامية في محلِّ دفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، و{أراد اللهُ} صِلَة، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطَه، تقديره: {أراد اللهُ} والموصول خَبَرُ ما الاستفهامية.
والثاني: أن تكون {مَاذَا} بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده، تقديره: أيَّ شيء أراد اللهُ.
قال ابن كَيْسَان: وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول، و{مثلا} نصب على التمييز، قيل: وجاء على معنى التوكيد؛ لأنه من حيث أُشير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أُشيرَ إليه.
وقيل: نصب على الحالِ، واختلف في صاحبها، فقيل: اسم الإشارة، والعاملُ فيها معنى الإشارة.
وقيل: اسم اللهِ- تعالى- مُتَمَثِّلًا بذلك.
وقيل: على القطع وهو رأي الكوفيين، وَمَعْنَاه عندهم: أَنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله، والأصلُ: بهذا المَثلِ، فلمَّا قَطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس: الطويل:
سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ ** وَعَالَيْنَ قِنْوانًا مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا

أصله: من البُسْرِ الأَحْمَرِ.

.فَصْلٌ في معنى الإرادة واستقاقها:

والإرادةُ لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه، وقد تتجرّد للطلب، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ- تعالى- وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ، طَلَبَ، فأصلُ {أراد} أَرْوَدَ مثل: أقام، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتٍ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث.
قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} الباء فيه للسَّببيَّة، وكذلك في {يهدي به} وهاتان الجملتان لا محل لهما؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ بأما، وهما من كلام الله تعالى.
وقيل: في محلِّ نَصْبِ؛ لأنهما صفتان ل {مَثَلًا} أي: مَثَلًا يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين، وهما على هذا من كلام الكفَّار.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالًا من اسم الله، أي: مُضِلاَّ به كثيرًا، وهاديًا به كثير.
وجَوَّزَ ابن عطية أن يكون جملة قوله: {يُضِلُّ بِعِ كَثِيرًا} من كلام الكُفَّارِ، وجملة قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثيرًا} من كلام الباري تعالى.
وهذا ليس بظاهرٍ لأنّهُ إلباسٌ في التركيب.
والضميرُ في {به} عائدٌ على {ضَرْب} المضاف تقديرًا إلى المَثَل، أي يضرب المثل، وقيل: الضميرُ الأوّل للتكذيب، والثاني للتصديق، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام.
وقُرِئ: {يُضَلُّ به كثيرٌ ويُهِدَى به كثيرٌ وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقُونَ} بالبناء للمفعول.
وقُرِئَ أيضًا: {يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقون} بالبناء للفاعل.
قال بعضهم: وهي قراءة القَدَرِيَّة، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة.
ثم قال: وابن أبي عبلةَ من ثِقَاتِ الشاميين يعني قارئها، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ.
قوله: {وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ} {الفاسقين} مفعول ل {يضل} وهو استثناء مُفَرّغ، وقد تقدَّم معناه، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوبًا على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره: وما يُضِلُّ به أحدًا إِلاَّ الفاسقين؛ كقوله: الطويل:
نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ** وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا

أي: لم ينجُ بشيء، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء، كأنَّه اعتبر مذهب جمهور البَصْريين.
والفِسْقُ لغةً: الخروجُ، يقالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا، أي: خَرَجَتْ، والفأرة من جُحُرِها.
والفاسقُ: خارج عن طاعةِ الله، يقال: فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقًا وفُسُوقًا، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ.
وزعم ابن الأعرابي، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم فاسق، وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب الزَّاهِر لمَّا تَكَلَّمَ على معنى الفِسْقِ قَوْلَ رُؤْبَة: الرجز:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا ** فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا

والفسيق: الدائم الفسق، ويقال في النداء: يا فَاسِق ويا خبيث، يريد يا أيُّها الفاسق ويا أيها الخبيث.
والفسقُ في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعةِ اللهِ عز وجل، فقد يقع على من خرج بعصيان.
واختلف أهل القبلة في أنَّهُ مؤمنٌ أو كافر.
فعند بعضهم أنَّه مؤمن، وعند الخوارج: أنَّه كافرٌ، وعند المعتزلة: أنَّه لا مؤمن ولا كافر.
واحْتَجَّ الخَوَارجُ بقوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11].
وقال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
وقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام. اهـ. باختصار يسير.

.تفسير الآية رقم (27):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{الفاسقين} أي الخارجين عن العدل والخير.
وقال الحرالي: الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية، لأن الفسق خروج عن محيط كالكمام للثمرة والجحر للفأرة- انتهى.
ثم بينهم بقوله: {الذين ينقضون} من النقض وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض {عهد الله} أي الذي أخذه عليهم على ما له من العظمة بما ركز فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل والعهد التقدم في الأمر- قاله الحرالي.
ولما كان المراد عهدًا خاصًا وهو إرسال الرسل عليهم السلام أثبت الخبر فقال: {من بعد ميثاقه} أي بدلالة الكتب على ألسنة الرسل مع تقريبه من الفطر وتسهيله للنظر، والوثاق شدة الربط وقوة ما به يربط- قاله الحرالي {ويقطعون ما أمر الله} أي الملك الأعظم، ولما كان البيان بعد الإجمال أروع للنفس قال: {به} ثم فسره بقوله: {أن يوصل} أي من الخيرات، قال الحرالي: والقطع الإبانة في الشيء الواحد والوصل مصيرًا لتكملة مع المكمل شيئًا واحدًا كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها فيسقطون عن مستواها وقد أمر الله أن يوصل بمزيد علم يتصل بها حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه، وكذلك حالهم في كل أمر يجب أن يوصل فيأتون فيما يطلب فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص- انتهى.
{ويفسدون} ولما قصر الفعل ليكون أعم قال: {في الأرض} أي بالنكوب عن طريق الحق.
قال الحرالي: ولما كانت الأرض موضوعة للنشئ منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية اللازمة الجسمية ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال والأخلاق وكان الإفساد نقض الصور كما قال تعالى: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] كان فعلهم فيها من نحو فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل والتقصير بما شأنه التكملة فكان إفسادًا لذلك- انتهى.
ولما كان كأنه قيل: إن فعل هؤلاء لقبيح جدًا فما حالهم؟ قال: {أولئك} أي الأباعد من الصواب {هم الخاسرون} أي الذين قصروا الخسران عليهم، والخسارة النقص فيما شأنه النماء- قاله الحرالي، ومن المعلوم أن هذا نتيجة ما مضى من أوصافهم.
قال الحرالي: ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة حال من نقص ما شأنه النماء كانوا بذلك خاسرين فلذلك انختمت الآية بهذا؛ وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير- انتهى. اهـ.